إلى الحفل الكريم، مساء الخير جميعا، مع حفظ الألقاب:
قبل سنوات خلت، سنوات كثيرة خلت، جئت المدرسة معلّمة فودتها نبعَ ماء جاريًا ينضح كرما وودّا وألفة. ودخلت المدرسة معلّمة تحمل في حقيبتها عالمين كاملين: متزوّدة بحقيبتها بما استزادت به من علم، وفي أحلامها ما ستُزوّد به تلاميذها في الأيّام المقبلة. ومرّت السنون دون أن أشعر بها لأنّ وحدة الزمن التي سرت وفقا لها لم تكن سنة ولم تكن شهرا ولم تكن أسبوعا ولا حتّى يوما، بل كانت الحصّة. الحصّة هي العالم. هي الرزنامة وقد استبدلتها بجدول الحصص الذي بات مدار التقويم الزمنيّ الذي بتّ أسير عليه. كلّ حصّة حكاية، كلّ حصّة قصّة فيها عدد من العوالم يوازي عدد الطلّاب، ولكلّ صفّ مسيرة من الحَكايا والقصص. قضيت العمر أعلّم لكن يمكنني اليوم أن أقول: قضيت العمر أتعلّم. قضيت العمر في حنين إلى الآتي. لا تسألوني وكيف هذا؟ كيف لمعلّمة علّمت حقبة طويلة أن تقف اليوم وتقول قضيت العمر وأنا أتعلّم؟ وأقول لكم: في كلّ يوم جديد كنت أصل المدرسة، تنتصب أمام عينيّ أخبار جديدة وروايات جديدة ولكن أختصرها وأقول: تحدّيات جديدة. هكذا كانت مسيرتي، في كلّ يوم كنت أصل المدرسة، كان يوما جديدا مليئا بالتحدّيات فكنت كالماء، أبحث عن طرق وسُبل وحلول. لا أتوقّف عند سدّ أو عائق. ولم يكن هذا كلّه ليتمّ لولا أنّي وُفّقت بالعمل معكم في هذه المدرسة مع الطاقم الرائع والمعلّمين الأكفاء طوال هذه السنين. كانت الأعوام هنا معكم وبينكم مثمرة وخيّرة ومليئة بالعطاء… والأهمّ أنّها كانت ملأى بالتعاون والتكاتف فقد عمل الطاقم كأعضاء الجسم الواحد، فالعين تحتاج الأذن، وكلاهما يحتاجان اليدين… وكلّها تسير وفق نبض قلب واحد حتّى تزهر الحياة. كان لي الشرف والفخر أن أكون في مسيرتي المهنيّة والإنسانيّة واحدة من هنا، من هذا البيت وهذه الأسرة، واليوم وأنا في حفل تكريمي،وبعد خمسةُ أعوام جائحة أدرك كم كانت التجربة غنيّة، عذبة، رائعة، تركت في نفسي ذكريات حُفرت كأنّها النقش على الحجر. وحين أسترجع ما كان خلال هذه المسيرة أجده وافرا كثيرا تأتّى بفعل تكاثف المشيئة، وتكاتف الجهود، تماما كما يُنبت الحقل السنابل لا بد أن تشترك عناصر الطبيعة كلّها من ماء وهواء وتراب، لكي يكون الجنى وفير العطاء. استمرّت مسيرتي هنا أربع وثلاثون عامًا، أدّيت خلالها بما أملى عليّ ضميري وقيمي الدينيّة والمجتمعيّة والإنسانيّة، وأغادركم اليوم لا كمهاجرة ترحل، بل كابنة بارّة تذهب في الأرض لتنقل زَخَمْ تجربة العمر، وتحمل رسالة هذا الصرح أينما حلّت، وأينما وطئت قدمها. عملت مع مديرين أعزّاء أكفاء، أذكرهم شخصًا شخصًا، فكلّ واحد وواحدة منهم كان عَلَمًا ومعلّمًا وعِلمًا، ربطتني بهم علاقة طيّبة تقوم على الأخوّة والاحترام، واستمرّت بزخمها مع المديرين كلّهم، وأذكرهم بكلّ الخير: الأستاذ الراحل طيّب الذكر إميل نصير، والأستاذ فؤاد حدّاد، والأستاذ أسامة معلّم، والأستاذة آن حدّاد، وأذكر المديرين العامّين اللذين أسعدني العمل معهما وتحت إدارتهما السيّد أيلر والسيّد بطرس منصور، والنواب ست ليزا شحادة والست ربى كردوش والاستاذ سهيل رزق .فلكم ولهم منّي كلّ الشكر والتقدير والذكريات الحلوة، ولزميلاتي المعلّمات وزملائي المعلّمين ولأصحاب الوظائف والعاملات والعاملين، شكرًا لكم على السنوات الحلوة الجميلة. أنظر إلى الوراء وأشعر بالفخر بطلّابنا الذين باتوا خرّيجين، وتبوّأوا مراكز ومهامّ ووظائف، وصاروا آباء وأمّهات، وصاروا أصحاب مهن مختلفة. وأفخر بالسنوات التي قضيناها معا في التعليم النشط ونحن نترجم الرسالة التي دخلنا فيها سلك التعليم ورسالة مدرستنا العريقة. وأقول إنّ التحدّيات باتت أكبر ومجتمعنا محتاج اليوم أكثر من أمس إلى المعلّمين ذوي الحضور القويّ ليفتحوا أمام طلّابهم الفرص، ويذوّتوا فيهم قيم هذا المجتمع، لنسعى دوما أن نكون مجتمعًا متميّزًا. وأذكر لكم أنّي علّمت من ضمن طلّابي… بناتي الثلاث: روان ورنين ونجوان، وابني حسام، وعن قريب سيدرس أحفادي في هذه المدرسة ليكملوا مشوار جدّتهم وأبنائها، فهذا المكان بيت دافئ. أشكر بناتي وأبني على السعادة التي غمروني فيها دومًا، كأبناء وكطلّاب، وكنتم دومًا مصدر فخر لي، وما تزالون وستبقَوْا. وأشكر هنا زوجي العزيز الذي وقف معي في كلّ أوقات التحدّي، وقاسمني الصعوبات، وكان المعين الأمين: شكرًا أبا حسام الغالي. قد يكون من العسير على أيّ إنسان أن يغادر مكانا قضى فيه عمرا مديدا، وأنا أغادركم اليوم بمشاعر مختلطة. قد يكون فرح البحّار الذي قطع البحر ووصل المرفأ، وقد يكون حزن الرحيل، ولكنّ اليوم شعوري يغلب الحنين والحزن إنّه شعور الرضى. راضٍ أنا لأنّي قد أدّيت الرسالة على أكمل وجه. وكلّما التقيت وجها من وجوه طلّابي ازداد عندي شعور الرضى. وقبل أن أغادر هذا المكان الذي شهد الكثير، أقول إنّه حين يُكرَّم المعلّم فهذه شهادة فخر مضاعفة، للمكرَّم وللمكرّمين: هي آية عرفان وشكر لجيل أعطى وبذل وعرف معنى التضحية والتقديم والوفاء، وشهادة رفعة لجيل يصون ويقدّر ويعرف معنى الشكر. وبالرضى أوصيكم وأشكركم على حضوركم وعلى هذا التكريم الرائع.للمزيد من الصور اضغط هنا